
تشهد جهود المساعدات الدولية حالة من الفوضى في ظل تحركات إدارة ترامب لتفكيك برنامج المساعدات الخارجية الأمريكية بشكل جريء وإعادة تشكيله وفق رؤيتها الخاصة. لقد تم تجميد المساعدات الأمريكية بشكل شبه كامل، كما أُغلقت الوكالة المستقلة للمساعدات الخارجية فعليًا.
هذا التغيير يأتي وسط حالة من عدم اليقين، كما هو الحال مع الكثير من قرارات ترامب. من الناحية الرسمية، يهدف التجميد إلى مراجعة البرامج لضمان توافقها مع أولويات الإدارة، إلا أن العداء العميق للمساعدات الخارجية من قبل ترامب وبعض الشخصيات البارزة مثل إيلون ماسك، الذي قاد هذا الجهد، يشير إلى أن العالم قد يشهد تخفيضات كبيرة في المساعدات قريبًا.
هذا الانكماش ستكون له تداعيات عالمية مقلقة، حيث لن يقتصر تأثيره على القيم التي يؤمن بها معظم الأستراليين، بل سيمس أيضًا المصالح الاستراتيجية لأستراليا. فالولايات المتحدة تُعد أكبر مانح للمساعدات الثنائية في العالم، إذ قدمت نحو 65 مليار دولار أمريكي العام الماضي. ومع تراجع دورها، ستتعرض أرواح كثيرة للخطر، بينما ستحتفي الأنظمة الاستبدادية المنافسة في العالم الغربي بتراجع القوة الناعمة الأمريكية.
ومع انسحاب أمريكا من التنمية العالمية، ستجد أستراليا نفسها أمام تحدي ملء هذا الفراغ. ولكن ذلك يتطلب معالجة العديد من الأسئلة الصعبة.
التأثيرات المباشرة على أستراليا
ستكون المشاريع الأسترالية المشتركة مع الولايات المتحدة الأكثر تأثرًا، خاصة تلك المتعلقة بالبنية التحتية الاستراتيجية في منطقة المحيط الهادئ، مثل الكابلات البحرية المصممة للحد من نفوذ الصين. ومع ذلك، فإن التهديد الصيني قد لا يكون كافيًا لإقناع إدارة ترامب بالاستمرار في تمويل هذه المشاريع، مما يضع أستراليا أمام خيارين: إما الدفاع عن استمرار هذه المشاريع، أو تحمل تكلفتها بالكامل.
علاوة على ذلك، كانت الولايات المتحدة المانح الرئيسي في المنطقة في مجالات رئيسية مثل دعم المجتمع المدني، والصحة، والمساعدات الإنسانية. ومع تراجع دورها، ستتأثر العديد من المنظمات التي تعمل مع أستراليا. والأهم من ذلك، أن هذا التغيير يفرض تساؤلات حول الأولويات. على سبيل المثال، تعتبر الولايات المتحدة أكبر داعم لمنظمات المجتمع المدني في جنوب شرق آسيا، وهي منطقة تتراجع فيها الديمقراطية والحريات. في المقابل، فإن الدعم الأسترالي في هذا المجال لا يزال محدودًا رغم بعض الزيادات الأخيرة.
التمويل العالمي والقضايا الدولية
يتعين على أستراليا، إلى جانب غيرها من الدول، إعادة النظر في كيفية معالجة القضايا العالمية مثل الأوبئة وتغير المناخ. فمثلاً، قدمت الولايات المتحدة 2.4 مليار دولار لمكافحة تفشي إيبولا في غرب إفريقيا والمساعدة في منع حدوث جائحة، بينما لم تتجاوز مساهمة أستراليا 26 مليون دولار. وفيما يتعلق بتغير المناخ، من المتوقع أن تقلص إدارة ترامب بشكل كبير أو تلغي التمويل الأمريكي لهذا الملف.
المؤسسات متعددة الأطراف في خطر
من بين الضحايا الأكثر تأثرًا بسياسة ترامب ستكون المؤسسات متعددة الأطراف. فقد جمدت الإدارة الأمريكية دعمها لوكالات الأمم المتحدة مثل برنامج الغذاء العالمي واليونيسيف، ومن المحتمل أن تلجأ إلى تخفيضات كبيرة. كما انسحبت الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، وقد تتعرض مؤسسات أخرى مهمة، مثل البنك الدولي، لضغوط كبيرة. ومن غير المستبعد أن يتراجع ترامب عن تعهدات الإدارة السابقة بتقديم 4 مليارات دولار للتمويل الميسر للبنك، وهو أمر بالغ الأهمية بالنسبة لدور البنك في منطقة المحيط الهادئ.
في هذا السياق، ينبغي على أستراليا أن تتساءل عما يمكنها فعله لمنع إضعاف المؤسسات الدولية الرئيسية. يتطلب ذلك إعادة النظر في الافتراضات السابقة، إذ فضّلت الحكومة الأسترالية في السنوات الأخيرة النهج الثنائي على النهج متعدد الأطراف في تقديم المساعدات، ضمن مساعيها لمنافسة النفوذ الصيني. لكن المصالح الاستراتيجية لأستراليا لن تتحقق إذا تُركت هذه المؤسسات لتنهار، مما يمنح الصين فرصة لتعزيز نفوذها عبر تلك القنوات.
غياب القيادة العالمية
إضافة إلى التأثير المالي، فإن تراجع الولايات المتحدة عن قيادة الجهود التنموية العالمية سيخلق فراغًا في القيادة. تاريخيًا، لعبت واشنطن دورًا محوريًا في تشكيل التحالفات الدولية لمعالجة القضايا التنموية. ومع ذلك، فإن القمم المقبلة، مثل مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ (COP30) في البرازيل ومؤتمر تمويل التنمية في إسبانيا، قد تفقد أهميتها في غياب مشاركة أمريكية فاعلة، مما يترك تحديات مثل فجوات تمويل المناخ، وتخفيف أعباء الديون، وتعثر التنمية العالمية دون حلول.
ماذا يمكن لأستراليا أن تفعل؟
لا يمكن لأستراليا أن تحل محل الولايات المتحدة، لكنها تستطيع أن تلعب دورها من خلال:
- زيادة ميزانية المساعدات الأسترالية، والتي لا تزال أصغر كنسبة من الدخل القومي مقارنة بالمساعدات الأمريكية.
- إعادة توجيه مزيد من التمويل نحو الأولويات التي تعاني نقصًا حادًا، بما في ذلك المؤسسات متعددة الأطراف.
- تكثيف الجهود الدبلوماسية بالتعاون مع دول أخرى لملء الفراغ القيادي الذي يتركه الانسحاب الأمريكي.
تعتمد طبيعة التحديات وحجم التضحيات المطلوبة على مدى تفكيك إدارة ترامب للمساعدات الأمريكية. لكن المؤشرات الحالية لا تبعث على التفاؤل، ما يجعل من الضروري بدء النقاش الآن.
لقد شهدت أستراليا سابقًا تقليصًا حادًا في مساعداتها، بل وألغت وكالتها المستقلة للمساعدات في العقد الماضي. لكن من خلال مراقبة الطريقة التي تهدر بها إدارة ترامب القيمة الاستراتيجية لبرنامج المساعدات الأمريكي، تستطيع أستراليا استخلاص درس مهم: افعلوا العكس تمامًا.